سورة النساء - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قسمت هذه الآية النساء تقسيماً عقلياً، لأنها إما طائعة، وإما ناشزة، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية، وإما من يحتاج إلى الحكمين، واختلف المتأولون أيضاً في الخوف هاهنا حسب ما تقدم، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف، و{الشقاق}: مصدر شاق يشاق، وأجري البين مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر، واختلف من المأمور ب {البعثة}، فقيل: الحاكم، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين، وتعاضدت عنده الحجج، واقترنت الشبه، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة، وقيل: المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين، وهذا في مذهب مالك، والأول لربيعة وغيره، واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فقال الطبري: قالت فرقة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: ينظر الحكمان في الإصلاح، وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما، وقالت فرقة: ينظر الحكمان في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك، وأنه وكل الحكمين على الفرقة، وأنها للإمام، وذلك وهم من أبي إسحاق، واختلف المتأولون في من المراد بقوله: {إن يريدا إصلاحاً} فقال مجاهد وغيره: المراد الحكمان، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما، وقالت فرقة: المراد الزوجان، والأول أظهره، وكذلك الضمير في {بينهما}، يحتمل الأمرين والأظهر أنه للزوجين، والاتصاف ب {عليم خبير} يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح.


الواو لعطف جملة الكلام على جملة غيرها، والعبادة: التذلل بالطاعة، ومنه طريق معبد، وبعير معبد، إذا كانا معلمين، و{إحساناً} نصب على المصدر، والعامل فعل مضمر تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون والإنفاق إذا احتاجا واجب، وسائر ذلك من وجوه البر والإلطاف حسن القول، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أباك، ثم الأقرب فالأقرب، وفي رواية: ثم أدناك أدناك، وقرأ ابن أبي عبلة {إحسان} بالرفع، و{ذو القربى}: هو القريب النسب من قبل الأب والأم، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها، {واليتامى}: جمع يتيم، وهو فاقد الأب قبل البلوغ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة، {والمساكين}: المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة، وجاهروا بالسؤال، واختلف في معنى {الجار ذي القربى} وفي معنى {الجنب}، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم: الجار ذو القربى هو الجارالقريب النسب، و{الجار الجنب} هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه، وقال نوف الشامي: الجار ذو القربى هو الجار المسلم، و{الجار الجنب} هو الجار اليهودي او النصراني، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر، وقالت فرقة: الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك، وكأن هذا القول منتزع من الحديث، قالت عائشة، يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك باباً، واختلف الناس في حد الجيرة، فقال الأوزاعي: أربعون داراً من كل ناحية جيرة، وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة: من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة فهو جاره، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوج كما قال الأعشى: [الطويل]
أَيَا جَارَتِي بِينِي ***
وبعد ذلك الجيرة الخلط، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
سَائِلْ مُجَاوِرَ جرْمٍ هَلْ جَنَيت لَها *** حَرْباً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الخُلُطِ
وحكى الطبري عن ميمون بن مهران: أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب، وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة {والجار ذا القربى} بنصب الجار، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في {الجار الجنب}: إنها زوجة وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ {والجار الجَنْبِ} بفتح الجيم وسكون النون، و{الجنب} في هذه الآية معناه.
البعيد، والجنابة البعد، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى: [الطويل]
أَتيْتُ حُرَيثاً زائراً عَنْ جنابة *** فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطَائيَ جَامِدا
ومنه قول الآخر، وهو علقمة بن عبدة: [الطويل]
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ
وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الشيء جانباً، وسئل أعرابي عن {الجار الجنب}، فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه، قال أبو علي: جنب صفة كناقة أجد، ومشية سجح، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب، وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك: الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي: الصاحب بالجنب الزوجة وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة فقطع قضيبين، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج، فقال له الرجل: كنت يا رسول الله أحق بهذا، فقال له: يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار، وقال المفسرون طرّاً: ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي عليه السلام: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي: ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه أن ينسب إليه، وذكر الطبري أن مجاهداً فسره بأنه المار عليك في سفره، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول واحد، {وما ملكت أيمانكم} يريد العبيد الأرقاء، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعاد جارحة البطش والتغلب والتملك، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزاً والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها، ويغنى عن ذلك اشتهارها، ومعنى {لا يحب} في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر، يقال خال الرجل يخول خلاً إذا تكبر وأعجب بنفسه، وأنشد الطبري: [المتقارب]
فَإنْ كَنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا *** وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فاذهَبْ فَخَلْ
قال القاضي أبو محمد: ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا، وقال أبو رجاء الهروي: لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، والفخر عد المناقب تطاولاً بذلك.


قالت فرقة {الذين} في موضع نصب بدل من {من} في قوله {من كان مختالاً فخوراً} [النساء: 36] ومعناه على هذا: {يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس} يعني إخوانهم، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر، {ويكتمون ما آتاهم من فضله}، يعني: من الرزق والمال، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، والآية إذاً في المؤمنين، فالمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين، وأما الكافرون فإنه أعد لهم {عذاباً مهيناً}، ففصل توعد المؤمنين من توعد الكافرين، بأن جعل الأول عدم المحبة، والثاني {عذاباً مهيناً} وقالت فرقة: {الذين}- في موضع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره بعد قوله {من فضله} معذبون أو مجازون أو نحوه، وقال الزجّاج: الخبر في قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40] وفي هذا تكلف ما، والآية على هذا كله في كفار، وقد روي: أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه السلام، وبما عندهم من العلم في ذلك وأمروا الناس بالبخل على جهتين، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم: اجحدوا أمر محمد، وابخلوا به، وبأن قالوا للأنصار: لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتخرون عليهم؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس، وحقيقة {البخل}: منع ما في اليد، والشح: هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس، وكتمان الفضل هو على هذا: كتمان العلم، والتوعد بالعذاب المهين لهم، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن {بالبُخْل} بضم الباء والخاء، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد {بالبَخَل} بفتح الباء والخاء، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة: بفتح الباء وسكون الخاء، وهي لكها لغات، {وأعتدنا} معناه: يسرنا وأعددنا وأحضرنا، والعتيد، الحاضر، والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
وقوله تعالى: {والذين ينفقون} الآية- قال الطبري: {الذين} في موضع خفض عطف على الكافرين، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفاً على {الذين يبخلون} على تأويل: من رآه مقطوعاً ورأى الخبر محذوفاً، وقال: إنها نزلت في اليهود، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر، وتقديره: بعد اليوم الآخر معذبون، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في اليهود، قال الطبري: وهذا ضعيف، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليسوا كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذا إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان، من حيث لا ينفعهم، وقال الجمهور: نزلت في المنافقين، وهذا هو الصحيح، وإنفاقهم: هو ما كانوا يعطون من زكاة، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {رياء} ودفعاً عن أنفسهم، لا إيماناً بالله، ولا حباً في دينه {ورثاء} نصب على الحال من الضمير في {ينفقون} والعامل {ينفقون} ويكون قوله: {ولا يؤمنون} في الصلة، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة، وحكى المهدوي: أن الحال تصح أن تكون من {الذين} فعلى هذا يكون {ولا يؤمنون} مقطوعاً ليس من الصلة، والأول أصح، وما حكى المهدوي ضعيف، ويحتمل أن يكون {ولا يؤمنون} في موضع الحال، أي: غير مؤمنين، فتكون الواو واو الحال.
و {القرين}: فعيل بمعنى فاعل، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد، والإنسان كله يقارنه الشيطان، لكن الموفق عاص له، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان، وقيل للحبل الذي يشدان به: قرن، قال الشاعر: [البسيط]
كَمُدْخِلٍ رأَسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ *** بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لزَّهُ الْقَرَنُ
فالمعنى: ومن يكن الشيطان له مصاحباً وملازماً، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته، و{قريناً} نصب على التمييز، والفاعل ل {ساء} مضمر، تقديره ساء القرين قريناً، على حد بئس، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} [الكهف: 50] وذلك مردود، لأن {بدلاً} حال، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: {وماذا عليهم} {ما} رفع بالابتداء، {ذا} صلة، و{عليهم} خبر الابتداء، التقدير: وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون {ما} اسماً بانفرادها، و{ذا} بمعى {الذي} ابتداء وخبر، وجواب {لو} في قوله: ماذا فهو جواب مقدم.
قال القاضي أبو محمد: وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له، وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقاً {وكان الله بهم عليماً} إخبار يتضمن وعيداً، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11